سورة الزمر - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)}.
يقول تعالى مخاطبا للمشركين الذين افتروا على الله، وجعلوا معه آلهة أخرى، وادعوا أن الملائكة بنات الله، وجعلوا لله ولدا- تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا- ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولهذا قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} أي: لا أحد أظلم من هذا؛ لأنه جمع بين طرفي الباطل، كذب على الله، وكَذَّب رسول الله، قالوا الباطل وردوا الحق؛ ولهذا قال متوعدا لهم: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} وهم الجاحدون المكذبون.
ثم قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قال مجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد: {الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} هو الرسول.
وقال السدي: هو جبريل عليه السلام، {وَصَدَّقَ بِهِ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} قال: من جاء بلا إله إلا الله، {وَصَدَّقَ بِهِ} يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الربيع بن أنس: {الذين جاءوا بالصدق} يعني: الأنبياء، {وصدقوا به} يعني: الأتباع.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قال: أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون: هذا ما أعطيتمونا، فعملنا فيه بما أمرتمونا.
وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به، والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير، فإنه جاء بالصدق، وصدق المرسلين، وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَصَدَّقَ بِهِ} المسلمون.
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} قال ابن عباس: اتقوا الشرك.
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يعني: في الجنة، مهما طلبوا وجدوا، {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} كما قال في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16].


{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)}.
يقول تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}- وقرأ بعضهم: {عباده}- يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكل عليه.
وقال ابن أبي حاتم هاهنا: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن، وهب حدثنا عمي، حدثنا أبو هانئ، عن أبي علي عمرو بن مالك الجنبي، عن فضالة بن عبيد الأنصاري؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقَنَعَ به».
ورواه الترمذي والنسائي من حديث حيوة بن شريح، عن أبي هانئ الخولاني، به.
وقال الترمذي: صحيح.
{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني: المشركين يخوفون الرسول ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دونه؛ جهلا منهم وضلالا؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} أي: منيع الجناب لا يضام، من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه، فإنه العزيز الذي لا أعز منه، ولا أشد انتقاما منه، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} يعني: أن المشركين كانوا يعترفون بأن الله هو الخالق للأشياء كلها، ومع هذا يعبدون معه غيره، مما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا؛ ولهذا قال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} أي: لا تستطيع شيئا من الأمر.
وذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس مرفوعا: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، جفت الصحف، ورفعت الأقلام، واعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا».
{قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: الله كافيّ، عليه توكلت وعليه يتوكل المتوكلون، كما قال هود، عليه السلام، حين قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54- 56].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا محمد بن حاتم، عن أبي المقدام- مولى آل عثمان- عن محمد بن كعب القرظي، حدثنا ابن عباس رضي الله عنهما- رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله».
وقوله: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: على طريقتكم، وهذا تهديد ووعيد.. {إِنِّي عَامِلٌ} أي: على طريقتي ومنهجي، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: ستعلمون غب ذلك ووباله {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: في الدنيا، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: دائم مستمر، لا محيد له عنه. وذلك يوم القيامة.


{إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)}.
يقول تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} يعني: القرآن {لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} أي: لجميع الخلق من الإنس والجن لتنذرهم به، {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} أي: فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه، {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: إنما يرجع وبال ذلك على نفسه، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي: بموكل أن يهتدوا، {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12]، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
ثم قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61، 60]، فذكر الوفاتين: الصغرى ثم الكبرى. وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى؛ ولهذا قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فيه دلالة على أنها تجتمع في الملأ الأعلى، كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره. وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلْينْفُضْه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين».
وقال بعض السلف رحمهم الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} التي قد ماتت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى.
قال السدي: إلى بقية أجلها.
وقال ابن عباس: يمسك أنفس الأموات، ويرسل أنفس الأحياء، ولا يغلط. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8